فصل: قدوم وفد ثقيف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير **


 بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة

قال ابن إسحاق ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكاً عليها وكان نصرانياً فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخالد إنك ستجده يصيد البقر فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط قال لا والله قالت فمن يترك هذه قال لا أحد فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان فركب وخرجوا معه بمطاردهم فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذته وقتلوا أخاه وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل قدومه عليه‏.‏

وفيه قال عليه السلام لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا‏.‏

ثم إن خالداً قدم بأكيدر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحقن له دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته‏.‏

وقال ابن سعد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالداً في أربعمائة وعشرين فارساً سرية إلى أكيدر في رجب سنة تسع بدومة الجندل وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة‏.‏

وذكر نحو ما تقدم وقال وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن يفتح له دومة الجندل ففعل وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح فعزل للنبي صلّى الله عليه وسلّم صفياً خالصاً ثم قسم الغنيمة فأخرج الخمس وكان للنبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قسم ما بقي في أصحابه فصار لكل واحد منهم خمس فرائض‏.‏وذكر ابن عائذ في هذا الخبر أن أكيدر قال عن البقر والله ما رأيتها قط جاءتنا إلا البارحة ولقد كنت أضمر لها اليومين و الثلاثة ولكن قدر الله‏.‏

وذكر موسى بن عقبة اجتماع أكيدر ويحنة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاهما إلى الإسلام فأبيا وأقرا بالجزية فقاضاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قضية دومة وعلى تبوك وعلى إيلة وعلى تيماء وكتب لهما كتاباً‏.‏

رجع إلى خبر تبوك‏:‏ قال ابن إسحاق فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها ثم انصرف قافلاً إلى المدينة وكان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب والراكبين الثلاثة بواد يقال له وادي المشقق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه قال فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف عليه فلم ير فيه شيئاً فقال ‏"‏ من سبقنا إلى هذا الماء ‏"‏ فقيل له يا رسول الله فلان وفلان وفلان فقال ‏"‏ أو لم أنههم أن يستقوا منه شيئاً حتى آتيه ‏"‏ ثم لعنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نصحه به ومسحه بيده ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما شاء الله أن يدعو به فانخرق من الماء كما يقول من سمعه ما إن له حساً كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه ‏"‏‏.‏

قال وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن عبد الله بن مسعود كان يحدث قال قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول ‏"‏ أدنيا إلي أخاكما ‏"‏ فدلياه إليه فلما هيأه لشقه قال ‏"‏ اللهم إني قد أمسيت راضياً عنه فارض عنه ‏"‏ قال يقول عبد الله بن مسعود يا ليتني كنت صاحب الحفرة‏.‏

وقال صلّى الله عليه وسلّم مرجعه من غزوة تبوك إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر‏.‏

 أمر مسجد الضرار

ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل في أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال ‏"‏ إني على جناح سفر وحال شغل ‏"‏ أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه ‏"‏‏.‏

فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أخا بني العجلان فقال ‏"‏ انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه ‏"‏ فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك بن الدخشم لمعن انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه‏.‏

ونزل فيه من القرآن ‏"‏ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين ‏"‏ إلى آخر القصة‏.‏

وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد وعباد بن حنيف وجارية بن عامر وابناه مجمع وزيد ونبتل بن الحرث وبحزج وبحاد ابن عثمان من بني ضبيعة ووديعة بن ثابت من بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر‏.‏

 المخلفون عن غزوة تبوك

وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين وتخلف الثلاثة الذين ذكرناهم كعب ومرارة وهلال فأما المنافقون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يعذرهم الله ولا رسوله‏.‏

وأما الثلاثة الآخرون فروينا من طريق البخاري قال حدثنا يحيى بن بكير فثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ع عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك كان قائد كعب من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن غزوة تبوك قال كعب لم أتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها‏.‏

وكان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت في تلك الغزاة والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتها في تلك الغزاة ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان قال كعب فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله‏.‏

وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوكاً فقال وهو جالس في القوم بتبوك ‏"‏ ما فعل كعب ‏"‏ فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برذاه ونظره في عطفيه فقال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم‏.‏

قال كعب بن مالك فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظل قادماً زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه بشيء أبداً فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قادماً وكان إذ قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب‏.‏

ثم قال ‏"‏ تعال ‏"‏ فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال ‏"‏ ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك ‏"‏ فقلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ‏"‏ فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر إليه المخلفون قد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لك فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هذا قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدراً فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلي قريباً منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلني على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني دفع لي كتاباً من ملك غسان فإذا فيه أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأته‏.‏

وهذا أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيني فقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا قال لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر‏.‏

قال كعب فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال ‏"‏ لا ولكن لا يقربك ‏"‏ قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت والله لا أستأذن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يدريني ما يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا‏.‏

فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي قد ذكر الله تعالى ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلح بأعلى صوته يا كعب بن مال أبشر فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء فرج‏.‏

وآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشرونا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرساً‏.‏

وسعى ساع من أسلم فأوفى علي ذروة الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني‏.‏

نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك‏.‏

قال كعب حتى دخلت المسجد فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرون حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة‏.‏

قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبرق وجهه من السرور ‏"‏ أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ‏"‏ قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال ‏"‏ لا بل من عند الله ‏"‏ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله‏.‏

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ‏"‏‏.‏

قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحدث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا كذباً وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت وأنزل الله تعالى على رسوله عليه السلام ‏"‏ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ وكونوا مع الصادقين ‏"‏ فوالله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله تبارك وتعالى ‏"‏ سيحلفون بالله لكم ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ‏"‏ قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله تعالى ‏"‏ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ‏"‏ وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه‏.‏

 قدوم وفد ثقيف

في شهر رمضان سنة تسع قال ابن إسحاق وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة من تبوك في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف وكان من حديثهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يقبل إلى المدينة فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما يتحدث قومه ‏"‏ إنهم قاتلوك ‏"‏ وعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن فيهم نخوة للامتناع الذي كان منهم فقال عروة يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم قال ابن هشام ومن أبصارهم وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ان لا يخالفوه لمنزلته فيهم فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله فيزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم يقال له أوس بن عوف أخو بني سالم بن مالك‏.‏

ويزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك يقال له وهب بن جابر فقيل لعروة ما ترى في دمك قال كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يرتحل عنكم فادفنوني معهم فدفنوه معهم فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيه ‏"‏ إن مثله في قومه لكمثل صاحب يس في قومه ‏"‏ ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلاً كما أرسلوا عروة فكلموا عبد ياليل بن عمرو بن عمير وكان سن عروة بن مسعود وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونون ستة فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب ومن بني مالك وعثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخا بني يسار وأوس بن عوف أخا بني سالم ونمير بن خرشة بن ربيعة أخا بني الحارث فخرج بهم فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة فاشتد ليبشر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدومهم عليه فلقيه أبو بكر فقال له أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أكون أنا أحدثه ففعل فدخل أبو بكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بقدومهم عليه‏.‏

ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية‏.‏

ولما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد كما يزعمون فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى اكتتبوا كتابهم وكان خالد الذي كتبه وكانوا لا يطعمون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأكل منه خالداً حتى أسلموا وقد كان فيما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما برحوا يسألونه سنة وسنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه ‏"‏ فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سناً وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان فأبى ذلك أبو سفيان عليه‏.‏

وقال ادخل أنت على قومك وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها ليضربها بالمعول وقام قومه دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها‏.‏

ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس واهاً لك واهاً لك فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع ومالها من الذهب والفضة والجذع وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شيء أبداً فأسلما فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ توليا من شئتما ‏"‏ فقالا نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ وخالكما أبا سفيان بن حرب ‏"‏ فقالا وخالنا أبا سفيان فلما أسلم أهل الطائف ووجه أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو مليح ابن عروة أن يقضي عن أبيه عروة ديناً كان عليه من مال الطاغية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ نعم ‏"‏ فقال له قارب بن الأسود يا رسول الله فأقضه وعروة والأسود أخوان لأب وأم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏ إن الأسود مات مشركاً ‏"‏ فقال قارب يا رسول الله لكن تصل مسلماً ذا قرابة يعني نفسه وإنما الدين علي وإنما أنا أطلب به فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية فقضى وكان كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كتبه لهم‏:‏ ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين إنا عضاه وج وصيده لا يعضد من وجد يفعل شيئاً من ذلك فإنه يجلد وينزع ثيابه فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ النبي محمداً صلّى الله عليه وسلّم وأن هذا أمر النبي محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكتب خالد بن سعيد بن العاص بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ‏"‏

 حج أبي بكر بالناس في سنة تسع

قال ابن سعد قالوا استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق على الحج فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة وبعث معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعشرين بدنة قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن جندب الأسلمي وساق أبو بكر خمس بدنات فلما كان بالعرج وابن عائذ يقول بضجنان لقيه علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القصواء فقال له أبو بكر استعملك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحج قال لا ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده فمضى أبو بكر فحج بالناس وقرأ علي بن أبي طالب براءة يوم النحر عند الجمرة ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وقال لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم رجعا قافلين إلى المدينة‏.‏وفيما ذكر ابن عائذ أن المشركين كانوا يحجون مع المسلمين ويعارضهم المشركون بإعلاء أصواتهم ليغلطوهم بذلك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ويطوف رجال منهم عراة ليس على رجل منهم ثوب بالليل يعظمون بذلك الحرمة ويقول بعضهم أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس على شيء من الدنيا خالطه الظلم فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحج ذلك العام وأمر الله ببراءة وذكر تمام الخبر‏.‏

وفيه فلما كان يوم النحر يوم الحج الأكبر أذن ببراءة من عهد كل مشرك لم يسلم أن لا يدخل المسجد الحرام بعد ذلك العام وبين لهم مدة الله التي ضرب على لسان نبيه أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا فقالوا بل الآن نبتغي تلك المدة نبرأ منك ومن ابن عمك إلا من الضرب والطعن فحج الناس عامهم ذلك فلما رجعوا أرغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً‏.‏

وكان العهد بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين عاماً وخاصاً فالعام أن لا يصد أحد عن البيت جاءه ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم فانتقض ذلك بسورة براءة والخاص بي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قبائل من العرب إلى آجال مسماة ولذلك قال ‏"‏ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ‏"‏ الآية ذكر معناه ابن إسحاق وذكر تمام الآي من سورة براءة وتفسيرها‏.‏